وحيد الطويلة: وُلدتُ في معجنة الحكايات.. ولا أعرف الإجابة عن الأسئلة الكبيرة

يوليو 25, 2025 - 09:00
 0  0
وحيد الطويلة: وُلدتُ في معجنة الحكايات.. ولا أعرف الإجابة عن الأسئلة الكبيرة

لستُ مبالغاً لو قلتُ عن الكاتب وحيد الطويلة إنه كاتب الدهشة، ومكتشف المناطق البكر، وقنّاص الفرادة بلغته التي تشبهه فقط، والمعتزّ بتجربته، فاتنُ النصّ، مناور في إجاباته، فلا تدري أين يكون جاداً ومتى يكون هازلاً، ولعلّ هذا الحوار يشفع لي فيه حُسن ظني، كي يتجاوز القارئ إسقاطات صاحب (ألعاب الهوى) المتعمدة مع سبق الإصرار دون ترصّد، تجربة المثقف، الروائي، الإنسان الطامح لأنسنة كونية بالكتابة، نضعها بين أيديكم، فإلى نصّ الحوار..

• ماذا عن البئر الأولى؟

•• أظنني كتبت عنها باستفاضة في روايتي الأخيرة: «سنوات النمش»، هذا المكان البكر تماماً كأنه الأرض الأولى للخليقة في تصور كثير من الناس، ولدت في بيئة عدد الذئاب بها يزيد عن أعداد البشر، أعداد اللصوص تزيد على نصف أعداد الناس، مكان لم يعرف أحد عنه خبراً قبل ظهور قوقل إيرث، ولم يعرف أحد ملامحه أو تخرج منه قصة قبل ظهور روايتيَ: «ألعاب الهوى، وسنوات النمش». لم أصادف مكاناً مثله في الواقع، ولا حتى في روايات أمريكا اللاتينية، طقس ممطر لخمسة شهور متتالية تقريباً، غيم لا يتتعتع من مكانه فوق الرؤوس قبل دخول النصف الثاني الربيع، لا طريق واحداً معبداً، طين طين، قبائل من الذئاب والثعالب والجنيات تحديداً دون الجن الذكور، طير يعبر السماء من الشمال طلباً للدفء ليصير طعام الناس العادي رغم فخامته، ورجال يغيبون بالشهور خوفاً من القتل أو بحثاً عن الرزق والقتل، ونساء ينتظرن عودتهن بالشوق بالرعب، بأغانٍ موجعة للروح. عشنا خائفين، الخوف يسبق الحلم ويركب الواقع، وبوليس يحلم باليوم الذي يستطيع فيه أن يدخل المكان ليحرقه بلصوصه، المكان الوحيد تقريباً الذي صنعه اللصوص وكبر حتى صار قرىً كبيرة، وله الآن طريق نصف معبد، بعد أن كان عبور مضيق جبل طارق أسهل من الوصول إليه. كتبت المحاولة الأولى عن «أبوزيد الهلالي» الذي توحمت فيه أمه على غراب فجاء لونه أسودَ، اقترحت على جدتي أن نغير لونه إلى اللون الرمادي مثلاً، لأن الناس عندنا يتنمرون على السود ويسخرون منهم، صُدمت في البداية، صفنت، ثم ربتت عليَ وهي تخفي ابتسامة ساخرة ثم قالت: كذاب، أنت كذاب كبير.

كتبت محاولة عن جارنا الذي امتطى حمارته، كانت رياضة ركوب الحمير متفشية بقوة، بل هي الرياضة الأولى، ونلت علقة متينة أتذكرها الآن فأضحك.

نفوس على فطرتها الأولى، الشر يسبق الخير ويأكله، شر خام على هيئته الأولى، وطير عابر ونساء موجوعات متوجعات، وأطفال لم يلبسوا حذاءً واحداً قبل دخول المدرسة اليتيمة التي أقامها الملك فاروق، حذاء واحد لطلبة العائلة يتبادلونه بينهم، أليس كل ذلك كافياً ليصنع عالماً مدهشاً ولو عاش بالألم؟

• كيف تجاور بين السرد والفنون الأخرى؟

•• صدقني، لا أعرف الإجابة عن الأسئلة الكبيرة، ومع ذلك فأنا ولدت في بداية مرحلة انتشار الراديو، ورغم ذلك كان شحيحاً، راديو بالكاد في كل عائلة، والملكية الفردية عزيزة، لكن هذه المنطقة لم تخل رغم ذلك من فوائد غير مقصودة، القرب من بحيرة البرلس، وبالتالي القرب من البحر المتوسط جعل إذاعات -سورية وبيروت وإذاعة خاصة كان اسمها سترايك واسرائيل المحتلة بالطبع- تصل إلينا بفيروز ووديع الصافي وحتى شادية الكرمل التي لا يعرفها أحد في محافظتنا غيري أو نقلاً عني، عرفت عبرها بلد الحكايات المفتوحة على الصدفة، المجروحة بالحب، رأيت السماء في أعظم لوحاتها التشكيلية، الفضاء البصري الغني المتنوع، الموسيقى البدائية على الأرض والعالمية في الراديو وفي التليفزيون حين وصل، أنغام محمد عبدالوهاب، وفطرة بليغ حمدي.

الغناء الشعبي، موواويل الفطرة والهيام، الحكايات التائهة بين الشجن والوعظ. السينما يا صديقي، لا نص بديعاً دون سينما ودون لغة ودون إيقاع مخفٍ، ودون غناء، دون فن تشكيلي أو بالأحرى دون ألوان. المونتاج بين السينما والكتابة، الحذف قبل الإضافة.

كانت بيئة فقيرة مادياً، غنية بالبصر والبصيرة والأحلام، بيئة يسطع فيها الشعر، لكن الحكاية العامة حاضرة والحكايات الخاصة على ألسنة الكبار، تحت الطرحة وفي عيون الصبايا وعيون الأمهات.

والصوت! أتساءل دوماً كيف تكتب رواية دون أن تعرف ماذا يفعل مصطفى إسماعيل، المقرئ الفنان، ربما الوحيد، محمد عبدالوهاب قال إنه حمد الله لأن الشيخ مصطفى لم يحترف الغناء، تسمع كأنك ترى، بل ترى بالفعل، ماركيز بالطبع ربما كان عنده مصطفى إسماعيل يخصه، أما نجيب محفوظ فعرفه وقال جملته الخالدة: «القرآن بينزل من بؤه سخن»، كأنه حليب.

• لماذا عدت للقصة عقب إنجاز الروايات؟

•• كنت قصاصاً ممتلئاً بالشعر، رغم أنني مولود في معجنة الحكايات، لكن الأكثر كان يروى شعراً وغناءً، المجتمعات المرتبكة تجنح نحوهما، سيرة أبوزيد الهلالي دون غناء غير مؤثرة، لذا بحث الأبنودي كثيراً عن صوت يحمل الحكاية، أتذكر أنه قال لي: وجدت جابر أبوحسين ملفوفاً داخل حصيرة فأيقظته وسحبته.

كنت أكتب قصصاً مسقاة بالشعر، بالإيقاع بالتوتر بالتكثيف، حتى قالوا عني شاعر يكتب القصة، لكنها نجحت، كان علي أن أروي شغفي أولاً وشغف المتنمرين بي بسرد الحكايات، لم لا!، عشت حياة ثرية، ذقت الأمرين بين عوالم عديدة، شديدة التناقض، أكتب النثر بالشعر، بالتأنيث حتى يعول عليَّ.

لا أكتب القصة راحة بين الروايات ولا تغييراً في التكتيك، فالقصة الجيدة متعبة، لكنني حاولت أن أسحب معي بعض بهاء القصة للرواية، هل يمكن أن أكون نرجسياً ولو لمرة واحدة وأقول: أنظر لجملتي الروائية، أو أنظر لنهايات الفصول، سحبت نهايات القصص لنهايات المشاهد، لم أكتب نهاية لمشهد في ثماني روايات لم تعجبني سوى مرة واحدة، هكذا سبقت محمد صلاح في الأرقام القياسية، إن لم أندهش أنا لن يندهش أحد.

في الفترة القادمة لن أكتفي بالتنقل بين القصة والرواية، بل سألحن قصائد امرئ القيس وعباس بن الأحنف وربما أغنيها.

• هل تكتب لنيل جائزة؟

•• صدقني، لا أجري خلف «البالون دور» في الرواية، أنا أريد أن أكتب نصاً ممتعاً محملاً في خلفيته أو ثناياه بالقضايا التي تؤرقني كإنسان أولاً وكإنسان عربي ثانياً، الذين حصلوا على جوائز وبالذات الكبيرة «في الصيت والتهييج» لم يكتب واحد منهم نصاً واحداً جيداً بعد الجائزة، لعل ذلك يكون موضوع بحث أو حتى تحقيق صحفي، أنا أتمنى أن أكتب في السوادة كما يقول العاملون بالتدريب العسكري.

كم كاتب في العالم العربي ينتظر القراء، بل الكتَّاب صدور رواية له، بل وتتخطى مقروئية وحضور نصوصه روايات الجوائز ذاتها، أي الروايات تعيش بعد صدورها بفترة.

الجوائز جميلة، إنها تنعش الجيوب والأرواح، ربما يستحقها قبلي عزت القمحاوي ومحمد الفخراني ومحمود الورداني وسمير قسيمي، شريف صالح، أحمد عبداللطيف وغيرهم، كل منهم حصل على جائزة واحدة تقريباً، لكننا أمام كتابة حاضرة بعيداً عن الجوائز.

المجد الحقيقي أن ينتظر نصك قراء ونقاد من عيار المترجم الكبير سيد إمام أو الناقد النحرير محمد بلعباس الذي استغرب نافورة المقالات حول رواية حذاء فيلليني، رغم أنها لم تحصل على جائزة لأسباب غريبة على الفن لا على الواقع، البروفيسور أحمد المديني، مقاله حول رواية بمثابة جائزة، نورا علي، النقاد الكبار: شوقي عبدالحميد، السريحي، يقطين، عمر شهريار، عبدالدايم السلامي، جمال القصاص، وشهادة من الكبير محسن يونس على نص تنذر بميلاد كاتب حقيقي، ووو.

هنالك رأي للقمحاوي أنه لا بأس بروايات ردئية، طالما أنها ستثري عادة القراءة الغائبة عن عالمنا العربي، ومع الوقت ستفرز الجيد والجودة، لكن المشكلة بل المصيبة أن تصبح الجوائز حكماً بالقيمة، وهي في إحدى تجلياتها أحياناً شهادات تطعيم تتحرك غالباً من بلد لآخر.

• ماذا عن الدعوات للمهرجانات ؟

•• لم تذهب بعيداً، معرض الشارقة للكتاب في معظم دوراته يرسل دعوات فقط للذين تظهر أسماؤهم في قوائم الجوائز، يحدث هذا في مهرجان تحت رعاية الشيخ صقر القاسمي المهموم بالثقافة، ما بالك بالمهرجانات الأخرى! هناك الكثير من الحكايات التي تزكم الأنوف لكن دعنا ننظر للجانب المشرق طالما ابتعدت الجوائز عن الحكم بالقيمة، عل الجوائز تنحو نحو الأفضل وتبتعد عن الغث. أحياناً تكون مكافأة الكاتب وجائزته الحقيقية أن يسأل ناقد عظيم مثل د.محمد برادة عن رواية ويتتبع وصولها إليه، وفي النهاية لا ألوم أحداً، لا أستطيع أن ألوم رئيس مجلس أمناء البوكر، البروفيسور سامر سليمان الجائزة الأشهر، فالتيار ربما كان عالياً عليه، لكنني ألوم بمحبة مثقفاً كبيراً مثل خالد الحروب، ألم يسمع عن سردية الثورة الفلسطينية وقراءة ما بعد أوسلو في رواية باب الليل، أم أن السردية الفلسطينية مرتبطة فقط بمحمود درويش؟

• ما انطباع جيل سردي عن حضورك؟

•• في الحقيقة لا أعرف، فعندما كتبت ونشرت كانت المقاعد مشغولة إلى لدرجة أن شاعراً معروفاً قال عن «ألعاب الهوى»: إنها بيضة الديك. للأسف حصلت على التعميد غصباً وأنا قادم من خارج الشلل وحاملي الأختام، لم أحصل على بركة الماء والملح من كاتدرائية، وهذا موجع للكهنة، مشيت وحدي نحو الجمال أياً كان جيله، ضحك جابر عصفور كثيراً حين قلت في حوار أنني أجلس على الحافة أرقب العالم دون غضب ودون الولوج في صراع ليس له علاقة بالكتابة الحلوة.

ومع ذلك حين أكون تلميذاً لمحسن يونس أو عبدالمنعم رمضان فهذا هو مجدي.

• ما حكاية رئاستك للمقاهي العربية؟

•• إنها جاءت بعد تفكير عميق رغم أنها كانت بين ساقيَّ، جاءت لي وأنا أفكر أن أكتب كتاباً عن المقهى باعتباري أقضي ثلث يومي فيه، لكن السبب الرئيسي كان حول اضطراري للخروج من الجامعة العربية، كنت أعمل هناك في تونس وابنتاي الصغيرتان في القاهرة وعليَّ أن أعود، الحقيقة كنت أبحث عن وظيفة، لم أجد مكاناً فارغاً بسهولة ولا بصعوبة، فكما تعرف الكل يريد أن يجلس على الكراسي في العالم العربي، ولا توجد كراسي تكفي.

كنت أتمنى بالطبع أن تأتي الفكرة لي في الطائرة كما جاءت للسادات وهو يفكر في معاهدة السلام، الحمد لله أن هذا لم يحدث.

ولأنني كنت أبحث عن تمويل وأنا الذي لم يحصل على مليم أو سفرة خارج نطاق العمل والكتابة، إلى أن كنت في الإمارات مع صديق موريتاني يعيش في تونس، كنا نتحدث بالتونسية التي نتقنها معاً، نظر إلينا المرافق مشدوهاً مع أنه قضى معنا أسبوعاً تقريباً وسأل بتعجب: من أين أنتم؟

حين أخبرته أننا نعيش في تونس باغتنا: «مش دي اللي رئيسها القذافي»؟ أجبته بالإيجاب، لكنه ضج من التوانسة وذهب ليحكم ليبيا.

أنوي بالطبع أن اعتزل الرئاسة والحكم بعد هذه الدورة، وأترك لجماهير المقاهي في العالم العربي فرصة اختيار مستقبلها. أفكر فقط بالبحث عن وظيفة..

• كيف ترى واقع الرواية العربية؟

•• قلت لك ولعلك تصدقني هذه المرة أنني لا أعرف الإجابة عن الأسئلة الكبيرة حقيقة، لكن واقع الرواية العربية جيد جداً حتى لو خرجت من المطابع مئات الروايات الرديئة، كتابة جميلة ممتدة من زيد مطاع دماج وصولاً للمقري وغيره، من الطيب صالح إلى أمير تاج السر وأقرانه، كتابة تحاول أن تجود الكلاسيكية مصداقاً لجملة أدونيس: على الحداثي أن يكون كلاسيكياً، كتابة بالتجريب ومحاولة قلب شكل الرواية ليتأثر المضمون، أشير فقط وأؤكد على اللغة بعيداً عن الروايات التي تلعب باللغة وتدور حولها، رواية دون لغة حية لا أقربها. أسماء جديدة والأهم موضوعات جديدة وزوايا نظر مختلفة للعالم، وشح في القراءة.

• هل أنصف النقاد وحيد الطويلة؟

•• أعترف بشجاعة وسعادة أن النقاد، أعطوا كتابتي محبة من النوع الفاخر، احتفوا بتجربتي أيما حفاوة، كان عنوان مقال فتحي عبدالله عن روايتي الأولى «ألعاب الهوي»: الخيال المتوحش، وسرد ما بعد الحداثة باباً واسعاً لي للحضور. والكبار: د.عبد المنعم تليمة، البروفيسور صبري حافظ والناقد الفذ د.محمد عبدالباسط.

حظيت تجربتي بمتابعة محبة كبيرة من د.برادة ود.المديني في المغرب والسلامي والهمامي في تونس وكثيرون في العالم العربي من شاكر الهاشمي في العراق إلى د.ولد بابا في موريتانيا.

لا أستطيع أن أحصي ولا ريد أن أنسى، كدت أنسى د.شاكر عبدالحميد الذي كاد يقرر حذاء فيلليني على الدراسات العليا في كل الجامعات، منى طلبة، وووو.

باب الليل تحديداً فتحت علي باب الشعراء الكبار: عبدالمنعم رمضان، محمد سليمان، محمد عيد إبراهيم، محمود قرني، سمير درويش اللماح، وجمال القصاص الذي لم يترك نصاً لي، وشهيرة لاشين، وزهير كريم، وفريد أبوسعدة الذي كتب عن كل أعمالي حتى أن الروائي سعيد مكاوي كان كلما قابله يقول: أهلاً بالناقد الملاكي لوحيد الطويلة، والشاعر الكبير آدم فتحي الذي أعطى من روحه محبة للنصوص.

لا يمكن أن أنسى أجمل مقالات د.شيرين أبوالنجا خصوصاً عن باب الليل، رافقت تجربتي حتى اختلفنا حول أسبقية الصعود لكوكب المريخ في قافلة ثقافية.

• لمن تقرأ من الكُتّاب السعوديين؟

•• أحببت عالم رجاء عالم وزاوية نظرها، تابعت باهتمام يوسف المحيميد وأميمة الخميس وزينب حفني وبالطبع بدرية البشر، وتابعت نجومية القصيبي ونقشبندي.

أحببت كثيراً عالم عبده خال ولغته رغم أنه الكاتب الوحيد في العالم وربما الكائن الوحيد الذي نسي ملامحي، ولعله يلقى مصيره في الأعراف، في السعودية شعر كثير وغناء أكثر، ورواية أوجدت لنفسها موقعاً جيداً.

ما هو رد فعلك؟

يحب يحب 0
لم يعجبنى لم يعجبنى 0
حب حب 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0