عائشة البصري: تعدُّد الأجناس إثراء.. وتنقُّلي بين السرد والشعر ليس خللاً

تعدّ الكاتبة المغربية عائشة البصري من الأسماء اللافتة في فضاء الإبداع العربي، فمنذ مجموعتها الشعرية الأولى «مساءات» الصادرة 2001، وهي تراكم التجربة بكتابات وإصدارات فاتنة، ولغة احترافية، لم تتوقف طويلاً عند «أرق الملائكة» لتنتقل إلى «شُرفة مطفأة»، وتعبر إلى «ليلةٍ سريعة العطب»، ثم ترصد «حديث مدفأة» وتنتقل سرديّاً إلى «ليالي الحرير»، وتردفها بـ«حفيدات جريتا جاربو»، وأعمال سكنت الوجدان والذاكرة والوعي، وهنا مساحة للتعرّف على فجر البدايات، ونهارات التفاصيل الدقيقة، لتجربة استحقت عن جدارة التكريم والإشادة من كبار النقاد، وفي ردودها ما يشعرنا بالثقة والسعادة في آنٍ، وحسبُ ذلك دافعاً لقراءة نتاجها الثّر المعبّر عن روح عبرت منعطفات الحياة، وعبّرت عنها بصدق وإخلاص، فإلى نصّ الحوار:
• متى بدأت علاقتك بالكتابة؟
•• لا أذكر أول نص كتبته. نشرت قصصاً قصيرة وقصائد شعرية في مجلات حائطية، ومنشورات الثانوية فترة الدراسة. ملأت- كما فعل زملائي الحالمون بالتأليف- دفاتر أنيقة بخواطر وأشعار. نلت جائزة أحسن نص قصصي. تلتها مرحلة صمت في الجامعة. ثم انشغلت بالألوان، كتبت مقاربات لأعمال تشكيليين مغاربة. ظهرت في الساحة الثقافية المغربية بأول مجموعة شعرية «مساءات» وتلتها مجموعات أخرى مسافة عقد من الزمن قبل أن أدخل صدفة مجال الرواية..
• من وقف وراء هذه التجربة بالدعم والمؤازرة ؟
•• والدي كان قارئاً نهماً باللغتين الفرنسية والعربية، رفيقاً وفيّاً للكتاب. ومكتبة البيت كانت أكبر محفز لي لاكتشاف عوالم الكتاب والكتابة. تلك الكتب المرصوصة على رفوف مكتبة والدي هي أول دعوة لي لعالم الحروف والكلمات، من ذكريات طفولتي، أذكر جلسات المساء الصيفي الطويل، حين كان يجلسنا حوله أنا وإخوتي ويقرأ علينا مقتطفات من روائع الأدب الفرنسي خلال القرنين السابع والثامن عشر، مؤكداً على مخارج الحروف وسلامة النطق بها، دون أن ينسى كونه معلماً للغة الفرنسية، ربما أردت أن أحقق له أمنيته في أن يصبح لنا في العائلة كاتب معروف.
• من يتابع نتاجك يشعر أن الهويّة الكتابية لم ترسُ على برّ، فيها الرواية والشعر، والقصة القصيرة، وربما دراسات نقدية، وكتابات إعلامية، ألا يؤثر ذلك على تراكمية مشروعك الكتابي؟
•• لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم الكتابة اليوم أصبح أكبر وأوسع؛ لأن الأمر يتعلق بالحرية الإبداعية والحق في التخييل. تعدد الأجناس إثراء مضاعف للكاتب، وعدد كبير من كتاب الرواية في القرن العشرين قدِموا من الشعر: «خوسي سراماغو» «بول أوستير»، «الطاهر بنجلون» «ميشيل بوتور» «بيتر هاندك» «غونتر غراس» وغيرهم.. فيهم من ظل يكتب الشعر والرواية في نفس الآن، وفيهم من عاد إلى الشعر إثر تحقيق منجزات باهرة في الكتابة الروائية. هناك قضايا وانشغالات تختار شكلها الملائم، أكتب بين الفينة والأخرى مقاربات محبة لبعض النصوص التي تعجبني، لكن تجربتي الإبداعية على العموم تنحصر في الشعر والسرد، ورغم اختلاف الأجناس، أنا أشتغل من داخل اللغة، وهي الشيء الثابت في تجربة كل كاتب..
وتحولي بين السرد والشعر ليس خللاً، أو بحثاً عن شكلٍ يستوعب التجربة، بل استجابة لحالة وجدانية وفكرية. لا يمكن وضع تجربة كاتب ما في صندوق وإغلاقه دون التحولات الفكرية والعاطفية للكاتب وإلا سيكون ذلك قمعاً أدبيّاً. لا أظن أن هذا التعدد قد أضعف مشروعي الإبداعي بل عدد قرائي.. لن أشعر في يوم من الأيام بالذنب لأنني تجاوزت تخصصاً أدبيّاً معيناً لبسته زمناً. لأن الكتابة بالنسبة لي هي رحلة طويلة بمحطات مختلفة.
• بموضوعية أين تجدين نفسك، بين هذه العوالم؟
•• أعتبر نفسي شاعرة وأنتصر للشعر. وعقب أعوام وستة أعمال سردية عدت أخيراً إلى الشعر، بيتي الأول، بديوان شعري تحت عنوان «المياه الكبرى». لم أتوقف يوماً عن كتابة الشعر، كل يوم أدون بيتاً أو شذرة. لكن الرواية كانت تأخذ مني الكثير من الوقت لكي أجلس وأرتب بيتي الشعري. تراكمت القصائد المتناثرة بين الجذاذات والكراسات.. كل مرة أدخل مشروعاً روائيّاً آخر وأعدني بالعودة إلى القصيدة لأنها متنفسي الروحي. مع الأسف الجوائز والتنويهات التي حصلت عليها كانت في الرواية.
• متى شعرتِ بالطمأنينة على مشروعك؟ وما مصدر الإلهام الذي تتكئين عليه؟
•• نهاية الكاتب هو ذلك الشعور المزيف بالاطمئنان. لحد الآن وبعد ستة عشر كتاباً، أبدأ عملاً جديداً بنفس القلق والتوجس، والخوف الذي كتبت به أول كتاب. كما لو أنني لم أكتب من قبل، لنقل أنه «رعب الصفحة البيضاء». القلق هو جزء من عملية الكتابة. الكاتب الذي لا يقلق أو يخاف مما يكتبه على الأرجح لا يكتب شيئاً يستحق على حد قول الكاتب الأمريكي ستيفن كينغ.. مع السنوات وممارسة الكتابة لا يعتمد الكاتب كثيراً على الإلهام لا يجلس أمام الكومبيوتر وينتظر، تصبح الكتابة حرفة وعادة يومية. شخصياً تكون على مكتبي ملفات عدة مفتوحة، أجلس أمام الكومبيوتر وأنخرط في الكتابة حسب مزاجي اليومي.
• ما أثر الشاعر حسن نجمي على تجربتك باعتباره كاتباً لا شريكاً؟
•• ليس هناك تأثير متبادل بيننا في التوجهات الأدبية. أنا وزجي الشاعر والروائي حسن نجمي قارتان متباعدتان مختلفان في الكتابة والإبداع. وربما يستغرب البعض أن زوجي الكاتب والمبدع حسن نجمي لم يقرأ لي يوماً، وأنا منذ أعوام لم أقرأ له شيئاً؛ لأنني أرى أنه ليس من الضروري أن يقرأ الزوج للزوجة أو العكس. الزواج مؤسسة لا تلزم لا المرأة ولا الرجل بالمشاركة الأدبية والفكرية. لدي أفكاري ومواقفي ولدى زوجي أفكار ومواقف تختلف تماماً. زوجي لا يعرف عن رواياتي ولا دواويني الشعرية إلا ما يسمعه من نقاشات جانبية بين الأصدقاء.. نحن مختلفان تماماً في أسلوب الكتابة حتى مرجعياتنا اللغوية تختلف. فبالإضافة إلى اللغة العربية والفرنسية زوجي يقرأ باللغة الإيطالية، وأنا أقرأ بالإسبانية. الاختلاف الأدبي لا يفسد للزواج مودة. حتى المكتبة في البيت لست مشتركة، كل واحد له مكتبته الخاصة. لنقل إنه اتفاق ضمني للحفاظ على الهوية الإبداعية لكل واحد منا.. لا بد من أن يكون للمبدع زاوية ظل، لا يدخلها أحد حتى ولو كان زوجاً أو زوجة.. مهم بالنسبة لي تلك المساحة من الحرية الإبداعية التي أتمتع بها داخل مؤسسة الزواج والتي تفتقدها العديد من الكاتبات.
• بماذا تصفين زواج المبدعين؟
•• بصفة عامة، ليس من السهل اقتسام الحياة مع كاتب بسمات مختلفة إنسانياً وإبداعياً. المساكنة الإبداعية فيها الكثير من المعاناة، إذا أخذنا بعين الاعتبار انتماء المبدعين. ففي مجتمع عربي كمجتمعنا، بكل حمولاته الدينية والاجتماعية والاقتصادية كذلك، غالباً ما تكون المساكنة الإبداعية إعاقة كبيرة بالنسبة للمرأة. يظل الشد والجذب بين الطرفين قائماً إلى أن ينقطع التواصل بينهما. نادراً ما تنجح علاقة في هذا المجال، وهو ما تؤكده نهاية زيجات عديدة في الوسط الثقافي العربي. هناك أربعة أشخاص في زيجة بين مثقفين: المرأة والكاتبة والرجل والكاتب. زحمة وضجيج لا تتحملها مؤسسة الزواج، التي تعرف في واقعنا الحالي تحديات مجتمعية كثيرة.. إذا نجحت هذه الزيجة في أن تعبر السنوات الأولى الخطيرة، فمع الوقت ربما يتقبل الزوج الكاتبة وتتقبل الزوجة الكاتب، الارتباط بكاتب لعنة تتبع المرأة الكاتبة العربية أينما حلت، بحكم النظرة الذكورية الدونية لكل ما تبدعه المرأة، والتشكيك في قدراتها الإبداعية والفكرية. لحد الآن لم يستطع المجتمع العربي ولا حتى الساحة الثقافية التمييز بين مسارين مختلفين في الكتابة. شخصياً، حين أعلنت نفسي كاتبةً، وجدتني أمشي على بقايا ألغام حرب لم أشارك فيها. لهذا أدعو الثنائيات الأدبية الصاعدة أن لا يخضعوا لهذا الابتزاز الثقافي، وأن يستفيدوا من القيمة المضافة للمساكنة الأدبية.
• هل زواج المثقفين من واقع تجربتك مؤهل لمقاومة كل المزعزعات والزوابع؟
•• عطفاً على ما ذكرت، وانطلاقاً من تجارب عديدة لزيجات بين مثقفين فشلت أو تعثرت، أستطيع أن أقول أن مؤسسة الزواج، خصوصاً في العالم العربي، لا تساعد على هذا التداخل، لأسباب منها أن الكاتب والمبدع يمتلك وعياً زائداً بتعقيدات النفس والعلاقات، لكنه أيضاً أكثر عرضة للقلق والتحليل الزائد، وأحياناً للتمرد على الأنماط التقليدية. وهذا لا يخلق دائماً استقراراً، بل ربما يولد صراعاً داخلياً أو بين الطرفين. نرجسية الكاتب أقوى من أي ارتباط أو مؤسسة. للكاتب نرجسية مرتفعة، ما يحدث اصطداماً بين رؤى فكرية مختلفة، كما أنه يتعامل مع العالم كما لو كان نصاً قابلاً للتأويل الدائم، ما ربما أن يعيق التفاعل البسيط والعفوي بين الزوجين، الثقافة تمنح أدوات للفهم والتأمل والتواصل، لكنها لا تُلغي الطبيعة البشرية. وفي أوروبا وأمريكا، هناك القليل من الثنائيات في الأدب والحياة.
• ألا تؤثر الالتزامات الأسرية على النتاج الكتابي؟
•• المرأة في المجتمع العربي، تُحمَّل الجزء الأكبر من أعباء الحياة المنزلية: تربية الأطفال، رعاية الزوج، إدارة البيت. إضافة إلى العمل خارج البيت.. وهذه الانشغالات تستهلك الوقت والجهد الذهني والعاطفي، وتقلّص المساحات الحرة التي يحتاجها الإبداع. الإبداع ليس فعلاً ميكانيكياً، بل يحتاج إلى صفاء، وحدة، ومساحة نفسية، ومكان للكتابة، وهي شروط غالباً ما تكون مهدَّدة في حياة الكاتبة الأم والزوجة. الكتابة فعل فردي وتحتاج مسافة بُعد عن الآخر، كما تحتاج لحرية أكبر، والالتزام المؤسسي يضعها تحت المحك. أعوام طويلة، وأنا لا أستطيع الكتابة إلا في ذلك الوقت الضيق المقتطع من يومي وهو من الخامسة صباحاً إلى الثامنة صباحاً قبل أن يستيقظ مَنْ في البيت. الحقيقة أنه من الصعب خلق توازن بين الكاتبة والزوجة والأم.
• ما نصيب الأعمال الوظيفية والنقابية من يومك؟
•• منذ سنوات تركت الوظيفة، وامتهنت الكتابة، ما عوضني عن وقت للكتابة كنت أفتقده من قبل.
• ما الذي يدفعك للكتابة؟
•• ببساطة، أكتب لأنه ليس لدي ما يكفي من الشجاعة كي أواجه الناس والحياة. في الشعر أختبئ وراء المجاز لأقول ما أريد وبحرية. في الرواية ألبس أقنعة الشخصيات لأدين واقعاً مجحفاً للمرأة، لتحسيس المجتمع باختلالاته وخلخلة هذا الواقع. الكتابة ضرورة وجودية بالنسبة لي كأنثى. لقد جاءت الكتابة في حياتي رد فعل على لحظات فاصلة، بعضها مؤلم، وبعضها مربك، وبعضها تركني في مواجهة نفسي وأسئلتي الكبرى. مررتُ بفترات صمت طويلة، سواء بسبب الأمومة أو الانشغالات الحياتية، لكن اللغة بقيت في داخلي كامنة، تبحث عن مخرج. وعندما عادت، عادت بقوة، كحاجة داخلية لا يمكن التفاوض حولها. الكتابة مساحة للتعبير، للتأمل، وللتصالح أحياناً مع ما لا يمكن التصالح معه. لا أكتب لأنني أملك أجوبة، بل لأنني أبحث عن الأسئلة. أكتب عندما أشعر أن هناك صوتاً غائباً يجب أن يُسمَع، أو ظلّ امرأة منسيّة يجب أن يُروى. الكتابة أيضاً شكل من أشكال الشهادة، وليست فقط تمريناً جمالياً. وقبل جمالية النص، الكتابة فعل متضامن بالأساس، هي وسيلتي للاقتراب من تجارب إنسانية قاسية، رغم أن ذلك لم يكن واضحاً خلف المجاز الشعري في المجموعات الشعرية الأولى، لكنه بدا جلياً في رواياتي. أظن أننا ككاتبات ملزمات بالدفاع عن حقنا ومشروعيتنا في التواجد الثقافي والاجتماعي والسياسي، ففي النهاية نحن نكتب دفاعاً عن قيم، وما الإبداع إلا رسائل عبر آليات التخييل.
• أين جسور التواصل بين مشرقنا العربي ومغربه؟
•• بين المشرق والمغرب جسور ثقافية، كانت على الدوام راسخة ومتعددة الأبعاد رغم اختلاف السياقات التاريخية والجغرافية. هذه الجسور لا تُختزل في الجغرافيا أو اللغة فقط، بل تتعداها إلى عمق التجربة الحضارية المشتركة، وتاريخ طويل من التبادل والتفاعل. أكيد أن اللغة العربية لعبت دوراً مركزياً في هذا التلاقح، باعتبارها الحامل الرمزي والثقافي الذي عبّرت من خلاله المجتمعات عن قضاياها وهواجسها. إلا أن التراث المشترك من الفلسفة إلى التصوف، ومن الشعر إلى الفكر الديني ساهم في بلورة نوع من الوعي الجماعي العربي، الذي لا يمكن فصل روافده المشرقية عن نظيرتها المغربية. هذا الوعي الجماعي توطد أخيراً بفضل أشكال التواصل الحديثة. على سبيل المثال لا الحصر، تأثر الكُتّاب المغاربة بتيارات الحداثة الشعرية والفكرية القادمة من المشرق، من بيروت والقاهرة ودمشق، كما تأثر المشرق بموجات التجديد الغربية التي أعاد صياغتها كتاب المغرب من خلال تجربة محلية خاصة، منفتحة على التعدد الثقافي والهوياتي للمغرب. الآن، لا أحد ينكر أن هناك ندية ثقافية واضحة، ورغم التحديات السياسية والاقتصادية يظل بيننا مشترك ثقافي متجذر وممتد.
• هل عززت مواقع التواصل الاجتماعي وشائج التفاعل بين المثقفين؟
•• رغم المخاطر المترتبة على استعمال هذه الوسائل، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي -خلال العقدين الأخيرين- فضاءً جديداً للتفاعل بين المثقفين العرب، وأعادت رسم حدود العلاقة بين المركز الثقافي والهامش، وبين الكاتب والقارئ، بل وبين المثقفين أنفسهم. لقد عززت هذه الوسائط، إلى حدٍّ كبير، وشائج الحوار والتقاطع، وخلقت نوعاً من الديمقراطية الثقافية غير المسبوقة. لم يعد المثقف العربي تحت رحمة مؤسسات النشر، أو رهين مواعيد الملاحق الثقافية الأسبوعية. أصبحت المنصة الإلكترونية امتداداً لصوته، وأحياناً بديله الأوّل. والفكرة تنتقل من الرباط إلى الرياض، ومن بغداد إلى الجزائر، في لحظات معدودة، مصحوبةً بتفاعلات آنية ونقاشات تتجاوز الجغرافيا والبيروقراطيات الثقافية. من جهة أخرى، أسهمت هذه المنصات في كسر المركزية الثقافية المشرقية التي طالما هيمنت على المشهد العربي، وأتاحت لأصوات مغاربية وخليجية وفلسطينية وسودانية أن تتقاطع في فضاء لغوي مشترك، دون أن يُفرَض عليها معيار جغرافي أو سلطوي.
• ما المنصات والمبادرات التي تحتاجها الثقافة العربية؟
•• ربما لست في موقع يسمح لي باقتراح حلول، لكن في ظل التحوّلات السريعة التي يعرفها المشهد الثقافي العالمي، تبرز الحاجة الملحّة إلى التفكير في منصات عربية ومبادرات ثقافية جديدة تستجيب لمتطلبات العصر، وتعزز التكامل بين الفاعلين الثقافيين من مختلف أقطار الوطن العربي. والعمل على الترجمة ليفهمنا الآخر، والمشاركة في كتابة النص الكوني، بخلق المزيد من المراكز المهتمة بهذا الجانب المهم للثقافة العربية. وإطلاق منصات رقمية للنقد الأدبي. فالملاحظ أن النقد العربي لا يواكب تحولات النص الأدبي الذي عرف طفرة النشر في السنوات الأخيرة. بعض النقاد لم يطوروا أدواتهم النقدية لعدم قدرتهم على مواكبة التجديد، والانخراط في كتابة عالمية حديثة. وأهم من ذلك، التشجيع على القراءة وتربية قارئ مواكب ومهتم بالاعتماد على المناهج مدرسية.
• ما انطباعك عن تحوّل الثقافة الصلبة إلى سائلة أو مسيّلة؟
•• هذا السؤال مرتبط بكيفية تعاملنا مع تقنيات التواصل الحديثة. في زمن لا يكفّ عن التحوّل، لم تعد الثقافة كما عهدناها. نحن اليوم أمام انتقال حقيقي، لا على مستوى الوسائط فقط، بل في طبيعة التلقّي والإنتاج والمكانة الرمزية للمعرفة نفسها، وهو تحوّل يتجاوز التقنية، ليطول جوهر الممارسة الثقافية.
هذا التحول له وجهان، فمن جهة، فتحت الثقافة السائلة المجال أمام فئات أوسع من الناس للتفاعل مع الأفكار والكتب والفنون، بل وأعادت الاعتبار لأصوات كانت مهمّشة أو بعيدة عن «المركز». ومن جهة أخرى، ثمة خطر حقيقي: أن تتحوّل الثقافة إلى «محتوى»، أي إلى شيء سريع الزوال، خفيف، مصمَّم ليُستهلك بسرعة ثم يُنسى. في هذا المشهد، نخشى أن يُفرّغ المعنى من عمقه، وأن تتحوّل المعرفة إلى أداة حضور رمزي بلا مضمون نقدي.
خوفنا الآن، هو أن نكون قد دخلنا زمن هشاشة المفاهيم. أن تفقد الثقافة عمقها، وتتحول إلى لحظة رقمية: سريعة، مختزلة، آنية، تفضّل الانطباع على التحليل، أن نسقط في إغراء السرعة ونخسر المعنى.
• لماذا طغى اسم محمد شكري على النتاج الإبداعي المغربي؟ وهل تعدينه ظاهرة؟
•• لا يمكن إنكار أن محمد شكري مثّل ظاهرة حقيقية في الأدب المغربي والعربي، كاتب خرج من الهامش إلى المتن، ومن العنف إلى اللغة، ومن العزلة إلى الترجمة العالمية، فشكّل صدمة فنية في زمن كان الأدب فيه لا يزال أسير التجميل الثقافي، فجاء هو بلغة الجسد، والانكسار، والنجاة الفردية. «الخبز الحافي» لم تكن رواية فقط، بل كانت انقلاباً على نظرة الناس إلى السيرة الذاتية، وعلى سلطة الرقيب الاجتماعي والأخلاقي والسياسي. لا يمكن الآن اختزال الأدب المغربي في اسم محمد شكري كظاهرة انتعشت أساساً من انبهار الآخر الغربي والشرقي معاً بصورة «الكاتب الملعون»، الخارج عن النظام، المتمرد لغوياً وسلوكاً، فأصبح عند البعض صورة نمطية عن المغرب الثقافي. إن حصر المشهد الروائي المغربي فيه فقط ظلم لأسماء روائية وازنة حققت تراكماً و نجاحاً في العالم العربي والغربي.
• كيف ترين مقولة المغرب يشتهر بمفكريه أكثر من سارديه وشعرائه؟
•• ربما هذه المقولة أصبحت متجاوزة الآن. ففي السنوات الأخيرة لم ينحصر التفوق والشهرة في الجانب الفكري فقط، بل تعداه إلى التفوق في الجانب الإبداعي كذلك. صحيح أن المغرب يتوفر على مفكرين ونقاد وباحثين كبار، وهو الآن يتوفر على كتاب وشعراء ومسرحيين وسيميائيين وفنانين تشكيليين مهمين.. والمشكلة أن النظرة القديمة التي كانت تعتبر المغاربة أهل نحو وفقه ولغة ما زالت سائدة، إلى حدٍّ ما، رغم مجمل التحولات الهائلة في أنظمتنا الثقافية والفكرية والإبداعية والجمالية في المغرب. وكون هذه النظرة التي تعجز عن الاطلاع والمتابعة -عكس ما نقوم به نحن من جهد لمتابعة الإنتاج الفكري والأدبي في الجناح الشرقي لأمتنا -لا يعني أننا لا نتوفر على أدب حقيقي. وإلا ماذا تعني هذه الجوائز العربية الوازنة التي حصل عليها أدباء وشعراء من المغرب. ولا تعوزنا الأسماء والأمثلة المغربية: محمد عابد الجابري، محمد مفتاح، عبدالفتاح كيليطو، محمد الأشعري، محمد بنيس، وغيرهم من الأسماء الشابة والجديدة.
• لمن تقرئين من الكتاب السعوديين؟
•• لدي صديقات وأصدقاء من الكتاب السعوديين. التقيت أغلبهم في مناسبات ثقافية: مهرجانات، معارض الكتب، وهناك من شاركتهم ندوات. رغم أنني لم أشارك في أنشطة بالمملكة السعودية فأنا أواكب إنتاجهم وتحولات الساحة الثقافية التي عرفت أخيراً انفتاحاً وتجديداً ملحوظاً؛ نظراً لعناية المملكة بالجانب الثقافي والفني. ولا بد من التنويه هنا بأن الحداثة الأدبية في السعودية مرت بمراحل مثيرة وثرية، وواجهت تحديات فكرية واجتماعية كبيرة، خصوصاً في ظل السياق المحافظ الذي كان يحيط بالنشاط الثقافي لعقود. ومع ذلك، ظهر جيل من الكتّاب السعوديين الحداثيين الذين لعبوا دوراً بارزاً في زعزعة البنية التقليدية للكتابة وإدخال مفاهيم جديدة في الشكل والمضمون. أتابع إصدارات الكثيرين أذكر بعض الأسماء مع الاعتذار لآخرين قد أسهو عنهم، في الشعر أحمد الملا، علي الحازمي، في الرواية عبدالرحمن منيف، عبده الخال ورجاء عالم، وزينب حفني، في النقد عبدالله الغذامي.
• هل أنصف النقاد تجربتك؟
•• لا أنكر أن الكثير من النقاد اهتموا بتجربتي الإبداعية، أذكر من بينهم الناقد المصري الدكتور صلاح فضل رحمه الله، كما حظيت إصداراتي باحتفاء الكثير من الكتاب كذلك. لكن بحكم ترجمة كتبي إلى لغات أخرى، كانت كتابات الآخرين وتقييمهم للتجربة أكثر إنصافاً، ربما لأنهم احتكموا للنص بغض النظر عن جنس كاتبه أو انتمائه.
ما هو رد فعلك؟






