السرد في بلاط الأمراء

السرد في بلاط الأمراء

الإنسان بطبعه كائن سردي لأن السرد في أصله وسيلة تعبيرية مهمة لبناء جسور التواصل بين إنسان وآخر لإيصال فكرة أو خبر أو لمجرد التسلية.

وبعيداً عن نظريات السرد وتحويل السرد بشكله الشفهي البسيط؛ الذي يمارسه الإنسان منذ بداية الخلق إلى أن أصبح فناً أدبياً له نظرياته التي تميز أنواعه واستخداماته، فهو مقترن بحديثنا اليومي بشكل لا يمكن فيه اختزاله بجنس أدبي أو بفئة من الناس دون غيرهم.

كان أول تقديم للإنسان بوصفه كائناً جديداً عبر قدرته على الفهم وتحويل ذلك الفهم إلى معلومة ومن ثم تقديم تلك المعلومة للآخرين عبر (سردها) بشكل لا تتقنه الكائنات الأخرى، وحدث ذلك حينما أمر الله آدم عليه السلام (أنبئهم بأسمائهم)، وذلك لم يكن بسرد الأسماء فحسب بل بماهية تلك الأسماء وعلاقتها بالوجود وتاريخها وحقيقة تلك الأسماء وهذا ينطبق على تعريف السرد بوصفه (التتابع والتسلسل في الحديث).

اكتشف الإنسان حاجته للسرد حينما بدأ بالتنقل وتمر به الأحداث ورغبته في إخبار الآخرين عن تلك الأحداث ونقل الصورة للآخرين ولو سبق التوثيق المرئي للأحداث ذلك لما ذهب الإنسان إلى خلق ذلك الفضاء السردي، ثم جاءت مرحلة الخيال لتصنع مرحلة أخرى مهمة من مراحل السرد؛ وهي المرحلة التي حولت السرد من كونه شيئاً من طبع الإنسان إلى أن يصبح فناً.

حينما يأتي الحديث عن بلاط الأمراء بوصفه حاضناً مهماً لإنتاج الأدب فإن أول ما يخطر على البال هو الشعر كونه الفن الأدبي الأكثر ارتباطاً في الأذهان بعلاقة الأمراء بالأدباء، رغم أن السرد يسبق الشعر في تلك العلاقة تاريخياً وكذلك من حيث الاستمرار.

تناول الكثير علاقة الشعراء بالأمراء وخصوصاً في الأدب العربي مع إهمال غريب لعلاقة أهم وأكثر إنتاجية وربما يعود ذلك إلى أن كل إنسان هو سارد، وليس كل إنسان شاعراً فأصبح السرد في بلاط الأمراء وكأنه مجرد ممارسة عادية وليست بناء لفن قائم بحد ذاته.

حينما نعود إلى كتاب ألف ليلة وليلة بوصفه أحد أقدم الكتب التي قدمت السرد بالحبكة الفنية المطلوبة لهذا الفن، فهو مثال رائع لعلاقة بلاط الأمراء بالسرد ليس فقط لأنه قائم على حكايات سردية تروى لأمير؛ بل لأنه تمثيل متقن لتأثير فن السرد على الأمراء ولو كان ذلك من باب الخيال الذي قام على علاقة موجودة ومحفزة لإنتاج ذلك العمل.

حتى القصص القرآني الذي أسس للسرد في العربية بطريقة أو بأخرى سادت على قصصه حكايات الحكام ومن حولهم سواء لأخذ العبرة والطمأنينة بالنهايات التي ينتصر فيها الخير على عبثية الطغاة أو لتسلية النبي عليه السلام وأتباعه عن الأذى الذي يلاقونه في سبيل الحق.

في العصرين الأموي والعباسي شهدت حركة التأليف السردي ثورة عظيمة كذلك حركة الترجمة لسرديات الأمم الأخرى وكان ذلك بتشجيع ورغبة من أمراء تلك المرحلة.

أخيراً، ما يزال الحكواتي موجودا في بلاط الأمراء حتى يومنا هذا ولم يغب ناقل الخبر منذ هدهد سليمان إلى ذلك الخوي الذي يسرد الحكايات أو يؤلفها لتسلية الأمراء أو لخلق مناخ تفاعلي في مجالس الأمراء، وهذا ما يجعل من السرد فناً كان وما زال حاضنه الأول بلاط الأمراء.