من يعيد لنا الحكواتي في المقاهي الأدبية والمسارح

يوليو 11, 2025 - 09:00
 0  0
من يعيد لنا الحكواتي في المقاهي الأدبية والمسارح

كان الحكواتي في الحضارة العربية الإسلامية أحد مكونات المخيال الشعبي المهمة، التي يمكن اعتبارها ظاهرة مسرحية متكاملة من الإعداد والتنفيذ والإخراج، وفي طبيعة ابتسيمولوجيا المحكي الشعبي الذي يقدم مشاهد ديناميكية ما بين الواقع والأسطورة استطاع أن يحقق تشكيل ابستيمي مغاير وخاص يفسر قدرة الذات على صنع الحكاية الجاذبة وتمثيلها بحركات محدودة في خطاب متعدد يتداخل فيه الأدبي والثقافي واللغوي، وتتضح فيه إمكانات تجدد المحكي عبر سياقات مختلفة ومتباينة تخضع لقانون التتابع والتماسك، يتضح فيه نجاح الحكواتي وشيوعه من خلال إعادة الحكاية كفعل تواصلي يتطلب مهارات الإلقاء والتمثيل.

وفي عصرنا الحالي، نلحظ غياب الحكواتي بمفهومه التقليدي عن أروقة المسارح والمقاهي الأدبية، وحضوره بشكل معدل أو لنقل مهجن من خلال برامج البود كاست التي انتقل فيها الحكواتي من مستوى الأداء المسرحي إلى الأداء السمعي. وفي ذلك العديد من البرامج التي ظهر فيها التضعيف الحكائي من خلال نواة كبرى يعبّر عنها بالعنوان ثم تتناسل منها المحكيات حسب النوع المعرفي الذي يتخصص فيه البرنامج؛ فمثلاً نجد أن بودكاستات قصص الجريمة مثل بود كاست جناية يحكي تفاصيل جريمة ما من خلال عنوان يشير حقله الدلالي إلى ذلك؛ فيتفجر المحكي الذي تنتظم فيه الحكاية من خلال النموذج الخماسي لبول لايفاري (P.Larivaille) يحكم فيه متوالية القص من خلال بنية فوقية بعناصره الخمسة، وهي: الحالة الأولية للتوازن أو بنية الاستهلال (La situation initiale)، ثم التحريض والإثارة (Perturbateur)، ومن بعدها الحدث أو العرض، ثم الجزاء أو البحث عن حل (Resolution)، لتنتهي هذه المتوالية بتحقيق الحالة النهاية للتوازن (La situation finale)، أو يخضع القص لطبيعة الجريمة والتشويق الأدائي. وهناك العديد من البرامج في الفلسفة وتطوير الذات والسياسة والتاريخ وفي أدب اليوميات أو الاعترافات وفي المجتمع والثقافة وفي تلخيص الكتب. إن ما يقدم في هذه القنوات هو جهد جيد، لكنه لا يلغي تأثير الحكواتي بمفهومه التقليدي في تدشين الدهشة لدى المتلقي خاصة فئات النشء المراهقين والشباب، وفي تغذية الخيال بمكونات فانتازية، وتشكيل أفق للمشاهد جديد في تصوراته، وإشراكه على غرار مصطلح القارئ الأنموذجي عند امبرتو إيكو بالمتلقي الأنموذجي الذي يفتح له الحكواتي الباب لملء بياضات أدائه، فيتوقع وبيني احتمالاته ويصنع المعنى بتأويله لتفاصيل ما يشاهد، وحين يتوقف الحكواتي عن القص، ويتوقف الكلام لجزء ثانٍ، هنا يرتبط المتلقي بفكرة نمو خياله وقدرته على تشعب احتمالاته أو تقليصها.

ليبقى السؤال من يعيد لنا الحكواتي؟ إن البرامج التي قدمتها وزارة الثقافة وهيئة الأدب جديرة بالشكر والتقدير، فماذا لو أُلتفت للحكواتي بإعادة إحيائه وفق رؤية جديدة ومؤثرات جديدة، لا سيما أن قصص التاريخ السعودي والملاحم البطولية مليئة بالحماسة وتتسق مع مفهوم الحكواتي، والكثير من القصص العالمية والحكايات المبتكرة وفق ضوابط النشر تستحق الظهور وجذب جمهور الظل الذي زحف إلى العزلة والتقنية الرقمية وفيه سد ثغرة شاغرة عن أدب المخيال الشعبي والملحمي في صناعته وتكوينه وتشكيل القيم والوعي وتغيير السلوك والهام الآخرين، وتطويره وتقديمه للنشء والشباب والرامي إلى مشاهدة هذه الحكايات.

ما هو رد فعلك؟

يحب يحب 0
لم يعجبنى لم يعجبنى 0
حب حب 0
مضحك مضحك 0
غاضب غاضب 0
حزين حزين 0
رائع رائع 0