ماجد الثبيتي: لا يزعجني أن يُقال عني قاص أو شاعر والكتابة لا تبشّر بالكاتب

ماجد الثبيتي: لا يزعجني أن يُقال عني قاص أو شاعر والكتابة لا تبشّر بالكاتب

شعرتُ أثناء تنسيق هذا الحوار مع الشاعر اللافت للانتباه ماجد الثبيتي، أنني أقرأ قصيدة لم أقرأ مثلها من قبل، ففي كل إجابة لقطات شاعرية فاتنة، تأخذُ بتلابيب القلب والذائقة إلى فضاء لا حدود لجماله، ولعلّ أوّل ما لفتني لتجربة ضيف هذه المساحة، ما قاله لي في حوار الشاعر الكبير قاسم حداد، بأن ماجد الثبيتي من أهم الأسماء التي يراهن عليها، إضافةً لاستشعاري قدراته وهو يعلّق على ومضة كتبتُها، بإيراد اسم الشاعر الراحل «سركون بولص»، وسيجد القارئ الموضوعي هنا، تأكيداً لصدق الانطباع عن تجربة تستحق أن نشيد بها ونفاخر.. فإلى نصّ الحوار:

• هل للبيئة المكانية والحاضنة الاجتماعية أثر في رسم مسار حياتك؟

•• بلا شك، كانت العائلة هي الينبوع الأول، الذي تدفقت منه علاقتي بالكلمة. نشأت في بيئة تحتفي بالقصص الشعبية والمحاورات الشعرية والمرويات الشفهية، وكانت المجالس تمثل ما يشبه المنصة الثقافية الحقيقية التي يُتداول فيها الكلام بوعيٍ جمالي. ربما لم أكن أدرك وقتها أن هذا التعرّض المبكر سيؤسس لحساسيتي تجاه اللغة، لكنه تراكم ببطء في الذاكرة والوجدان، وصار جزءاً من البنية الداخلية لتجربتي. والحق أن المحاورات الشعرية و«ملاعب الشعراء» التي تقام في الطائف كانت فضاءً ثقافياً مذهلاً وذات أثر، سواءً تلك التي كانت تقام بحفلات الزواج، أو المسجلة على أشرطة الفيديو مثل حفلات «المغترة» بالثمانينيات وسواها من حفلات الزواج المسجلة. لقد أعطتني اعتباراً عميقاً للشعر والفن. وهي في الحقيقة لا تزال مادة ثقافية أصيلة لم تأخذ حقها من الدراسة والبحث المعرفي الذي تستحق.

• متى كانت الكتابة الأولى المبشّرة بك؟

•• ربما كان ذلك في المرحلة الثانوية حين كتبت أول قصة طويلة بعنوان «أرجوحة الذكرى بين مساءين»؛ كانت محاولة قصصية، لكنّ نزعة التجريب فيها بدت لي لاحقاً وكأنها بصمة واضحة للأسلوب الأدبي الذي انطلق منه. ثم جاءت مجموعتي القصصية الأولى «الفهرست وقصص أخرى»، التي فازت بالمركز الأول في جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2009، لتمنحني دفعة قوية نحو الاستمرار، وتدشين الإعلان الرسمي عن اسمي في الأوساط الأدبية. لكن بالعموم أعتقد أن الكتابة دوماً لا تبشّر بالكاتب فقط، بل تخلقه من جديد في كل تجربة.

• بمن تأثرتَ في البدايات؟

•• لم أكن ممن ينشأون على مشروع شعري أو أدبي محدد، وهذا أنقذني -بشكل ما- من فخ الاستلاب. كنت قارئاً مزاجياً، أتصفح أكثر مما أقرأ بعمق، وألتقط ما يشبه الشذرات من كتب متفرقة. تأثرت بطريقة غير مباشرة ببعض الأساليب الشعرية والأدبية المختلفة لا بأسلوب محدد على وجه التحديد. أما التحول الحقيقي فكان مع الأدب المترجم، خصوصاً في فترة لاحقة عبر قصيدة النثر الأمريكية والأوروبية، التي كشفت لي جماليات متنوعة وتجريبية لا علاقة لها بالقوالب الموروثة.

• الاختزال، فطرة لديك أم موهبة طوّرتها؟

•• أعتقد أنه مزيج بين الفطرة والممارسة. بطبيعتي أميل إلى التكثيف، إلى ترك البياض يقول ما لا تقوله الجملة. التجريب في قصيدة النثر، واشتباكي مع الفن المعاصر، دفعاني إلى الإيمان بأن الفراغ جزء من التكوين، وأن الصمت أحياناً أبلغ من الامتلاء.

• بماذا يمكننا الفصل بين قصة قصيرة جداً، وقصيدة نثر؟

•• القصة القصيرة جداً تعتمد على حدث أو مفارقة أو حبكة وإن كانت مضمرة، بينما قصيدة النثر لا تبحث عن ذروة، بل تتكئ على الإيقاع الداخلي والصورة والدهشة. القصة القصيرة جداً في الغالب تقودك إلى نهاية، أما قصيدة النثر فهي اقتراح مفتوح، يقودك إلى احتمالات. لكن المنطقة بينهما ملتبسة، وغالباً ما تكون هناك نصوص هجينة يصعب تصنيفها.

• هل يزعجك وصفك بالقاص الشاعر؟

•• لا يزعجني أن يُقال عني قاص أو شاعر، لكنه توصيف يعود إلى مرحلة كانت الهوية الإبداعية تُعرَّف من خلال جنس أدبي محدد (قاص- شاعر- روائي- ناقد). اليوم، مع التحولات التي يشهدها الفن والأدب، وانفتاح الأنواع الفنية والأدبية على بعضها البعض، لم تعد هذه التصنيفات كافية لفهم طبيعة الممارسة، بل ظهرت تصنيفات جديدة، مثل: كاتب متعدد التخصصات (Interdisciplinary writer)، فنان مفاهيمي (Conceptual artist)، ممارس سردي (Narrative practitioner)، شاعر وسائط جديدة (New media poet)، كاتب تجريبي (Experimental writer)، وأنا أعرّف نفسي أحياناً كمبدع متعدد التخصصات، أشتغل على تقاطع الشعر والسرد والفنون المعاصرة، وأهتم بتجريب الأشكال وتوسيع حدود اللغة والوسيط. ما أكتبه قد يأخذ شكل قصيدة، أو قصة، أو بيان شعري/‏ فني، لكنه في جوهره محاولة لفهم العالم عبر أدوات متداخلة. لذلك، لا أرفض التصنيف التقليدي، بل أضعه ضمن سياقه، وأترك النصوص تنطق بهويتها، دون فرض تصنيف مسبق، أو تأطير لاحق، الأمر متروك للنقاد والقراء كذلك، ولا يشغلني أو يزعجني هذا الأمر إطلاقاً.

• ما رأيك في تسامح البعض مع تداخل الأجناس الأدبية؟

•• أراه موقفاً صحياً ومنتجاً. في زمن تتكسر فيه الحدود بين الفنون والأنواع، يصبح من الطبيعي أن نرى نصوصاً مشوشة للمنظومات النقدية التقليدية. لا عيب في أن يستعير النص تقنيات من السرد أو من الشعر أو حتى من البيان الفني، المهم هو ما يقوله النص، لا ما يُقال عنه.

• أين يقف نصك من التحولات الكبرى؟

•• أحاول أن يظل نصي واقفاً على الحافة. لا أطمح إلى تمثيل لحظة ما، أو تسجيل موقف مباشر، لكنّني أؤمن بأن الكتابة الجيدة لا تنفصل عن الزمن، وإن لم تكتب عنه صراحة. نصي يقف في المسافة بين الفردي والعام، بين سؤال الداخل وتحوّلات الخارج، وغالباً ما أستخدم المفارقة والصدمة والطرافة، كأدوات لقول ما لا يُقال بطرق مباشرة تخصني لوحدي.

• ما الذي يمكن أن يعبّر عنه شاعر بين ثنائية الوجود والعدم؟

•• الشاعر هو أكثر الكائنات عُرضة لملامسة هذه الثنائية. لا أكتب الشعر بحثاً عن إجابات، بل لأنه يمنحني فرصة لطرح الأسئلة التي لا يجرؤ عليها الكلام العادي. قصيدة النثر تحديداً هي المساحة التي يمكن للذات أن تقيم فيها بين الحضور والغياب، بين أن تكون تماماً أو لا تكون.

• النص يأتيك أم تأتيه؟

•• نلتقي أنا والنص في منطقة محايدة دوماً، اسمها الانتباه الجديد. الانتباه المختلف جذرياً للمعتاد واليومي والشائع من وجهة نظر حديثة ومعالجتها عبر الكتابة والفن بما يخالف التوقعات أو بما يعطي لها معاني لم تخطر على بال من قبل. لا أؤمن بملاحقة النصوص، بل باستقبالها. والكتابة الجيدة لا تحدث دائماً عندما تريد، بل عندما تكون حاضراً لما لا تعرف.

• كيف اتخذت من قصيدة النثر خياراً أبدياً؟

•• لم أخترها بقصدية مصطنعة. يمكنني القول إنها هي من اختارتني. كل ما أكتبه كان ينسجم معها بشكل طبيعي، دون أن أقرر ذلك مسبقاً. مرونتها، وتنوعها، وقدرتها على احتواء القصة والتأمل والشذرة والصرخة، جعلتني أجد نفسي فيها. قصيدة النثر لم تطلب مني أن أكون غيري، بل منحتني ما يكفي لأكون نفسي.

• أيّ مدارس الفنّ الحديث تتقاطع مع تجربتك وتتقاطع معها؟

•• تجربتي تتقاطع بشكل واضح مع الفن المفاهيمي، وفي فترة مبكرة بالسوريالية غير اللغوية. وكل اتجاه يعطي الأولوية للفكرة على الوسيط. أكثر ما يشدّني هو الفن الذي يزعزع المألوف ويعيد مساءلته. أحياناً أكتب نصاً بعد أن أرى مشهداً بصرياً، أو أُنجز عملاً فنياً بعد قراءة نص شعري. بين القصيدة والعمل الفني هناك ملامح متشابهة.. ربما هو الإحساس بأن الفكرة هي التي تقود، لا الوسيط. ولعل أبرز مثال على ذلك هي البيانات الفنية للفن المعاصر.

• هل ينحصر دور النص النثري في التكثيف؟

•• التكثيف إحدى أدواته، لكنه ليس غايته. قصيدة النثر قادرة على أن تكون مشهداً، فكرةً، مونولوجاً، أو حتى خيالاً تجريبياً. أحياناً تتمدد وتتراخى، ثم تعود لتقبض على القارئ في لحظة غير متوقعة. والأنماط التي تندرج تحت قصيدة النثر الحديثة مفتوحة ومذهلة في تنوعها ومرونتها على تحويل كل شيء إلى قصيدة النثر.

• ما أقوى سلاح تمتلكه قصيدة النثر؟

•• الحرية. لا تخضع لقافية، ولا تلتزم بتقاليد جاهزة. قصيدة النثر لا تخجل من التناقض، ولا تطلب الإذن. فيها فسحة لكل شيء: التأمل، السخرية، الصدمة، التلاعب اللفظي، الحكمة والمأثور وحتى العبث.

• ماذا عن العلاقة مع الآباء المؤسسين؟

•• علاقتي بهم نقدية أكثر منها عاطفية. تعثرت مع كثير من كتاباتهم، خصوصاً حين تتضخم اللغة وتتحول إلى متاهة. ربما لأنني أبحث في النص عن أثر إنساني أكثر من حذلقة لغوية. لست قادراً على تحديد اسم واحد يمكنني تسميته أباً مؤسساً لما أكتب في الحقيقة.

• هل أثقلك إطراء قاسم حداد عندما أشاد بتجربتك؟

•• بالعكس، كان ذلك الإطراء دافعاً داخلياً مهماً. حين قال، في لقاء صحفي أعقاب فوز محمد الثبيتي بجائزة عكاظ، إنه اكتشف «ثبيتياً جديداً»، شعرت أن ما أكتبه في عزلتي وصل إلى ضفة أخرى. لم يُثقلني ذلك، لكنه جعلني أكثر حرصاً على أن أكتب بصدق، لا استجابة لأي إشادة أو تصنيف. كما كان له فضل في نشر نصوصي الشعرية بموقع جهة الشعر قبل الجميع.

• أين ومتى تشعر بالطمأنينة على نصك؟

•• حين لا أضطر للدفاع عنه. عندما يُراودني بعد كتابته، أو يدهشني بعد قراءته من جديد. حين أشعر أن فيه طبقة لم أكن أقصدها، لكنه حملها دون وعي. هذه هي الطمأنينة: أن يكون النص أذكى مني. وأكثر حيوية رغم مرور وقت على كتابته.

• ما مدى أهمية الغنائية في قصيدتك؟

•• الغنائية إن كنت تقصد النزعة العاطفية والذاتية في القصيدة، وفي عموم الكتابة الأدبية التي أشتغل عليها لها أهمية رغم أنها ترد بشكل غير مقصود في بعض الأحيان والنصوص. ما يعنيني هو أن تكون النبرة صادقة ومتناغمة مع ما يقوله النص، سواء كانت غنائية أو لا.

• من هم أبرز الشعراء الذين أثروا وأثّروا في قصيدة النثر محلياً وعربياً؟•• محلياً: إبراهيم الحسين، عبدالرحمن الشهري، محمد خضر، وكذلك محمد السعدي.. وأيضاً ضيف فهد لو تم الانتباه للعديد من نصوصه أنها تمثل قصيدة نثر حديثة جداً وغير مسبوقة. عربياً: عماد أبو صالح، سركون بولص، عباس بيضون، وديع سعادة، ميثم راضي، سكينة حبيب الله. جميعهم ساهموا في توسيع حدود قصيدة النثر العربية، كل بطريقته.

• كيف تقيّم تجربتك في مسابقة المعلّقة؟

•• تجربتي في «المعلّقة» كانت مغامرة. أتاح لي البرنامج تقديم اسمي عبر قصيدة النثر لجمهور عريض، لم يكن معتاداً عليها. ولم أكن أتخيل الوصول له حتى على المستوى الاجتماعي الذي يخصني، صحيح أن الإطار تنافسي ومسرحي، لكنه فتح حواراً ضرورياً حول هذا النوع الشعري، وأضاء أصواتاً جديدة كانت تستحق أن تُسمع. والحق أنها على مستوى شخصي كانت أشبه بتجربة اختبار لي وللجنة التحكيم، وباعتقادي لم ينجح أحد منا.

• ممّ تخشى على الفن والإبداع؟

•• أخشى من التنميط، من الذائقة المعلّبة، من جثث تجلس في الصفوف الأمامية محلياً. ومن تحوّل الإبداع إلى أداء وظيفي. أخشى أن نخاف من الصدمة، أو نخجل من الطرافة. الإبداع يجب أن يبقى فعلاً حيوياً وحديثاً وجريئاً، لا أداءً مكرراً.

• ما الذي تحرص على الاحتفاظ به وسط هذه التجارب المتعددة بين الشعر والفن؟

•• أحرص على أن أبقى في منطقة مثيرة إبداعياً، حتى لو كانت بعيدة عن الضوء. لا تعنيني التصنيفات، ولا أجد لذة في التماهي مع تيار بعينه. أكتب بمزاجية وعلى مهل، وأعرض أعمالي كيفما اتفقت اللحظة، لا لأن لدي موعداً للنشر أو العرض.

• ما الذي يميّز صوتك داخل نصك أو أعمالك الفنية؟

•• ثلاثة ملامح أعتقد أنها تميّز تجربتي: المفارقة، الصدمة، والطرافة. هذه ليست تقنيات فقط، بل مواقف ذاتية. أحب للنص أن يربك القارئ، يضحكه في لحظة، ويترك فيه وخزة في اللحظة التالية. هذه المساحة الهجينة هي، كما أظن، أكثر ما يعبر عني.

• ما الجديد الذي تُعدّ له؟

•• أعمل حالياً على مجموعتي الشعرية الجديدة، التي أرجو أن تكون إضافة نوعية إلى القصيدة التي أحب، قصيدة النثر، ولكن من زاوية جديدة ومعاصرة، تواكب تحولات العالم الحديث، وسرعته، ووعي قرائه المتطورين. كما أنجز في الوقت نفسه أعمالاً فنية جديدة، لا تزال في طور الإعداد والنشر.